أنت غامرت عشان توصلى وأنا 25 سنة سنة موصلتش لنفسى
نستكمل مع المتشرد ما سبق وقد تحدثنا عنه فى مقالة سابقة عن هذا الشاب المتشرد أبوزيد الذى عاش عمره كله داخل قصر الخديوى توفيق المهجور بمنطقة حلوان, واتخذ له الجناح الملكى مقر دائم له, فهو يأكل وينام ويعيش فى هذا الجناح المهجور الذى يرتفع عن سطح الأرض حوالى خمسة عشرة مترآ. ولا يمكن الصعود له إلا من خلال تسلق الصخور والسير على الأعمدة, تحدثنا فى المقالة السابقة عن كيفية دخول القصر وما وجدناه فى أروقة هذا القصر المهجور, وكيف تسلقنا الصخور وغامرنا من أجل الوصول إلى أقدم وأشهر متسول عاش اكثر من عشرون عامآ داخل هذا القصر المهجور وهو أبوزيد, دلفنا له من النافذة العلوية للجناح الملكى وعقدت معه لقاء لا يمكن أن أنساه .
تسلق جدران قصر الخديوى بحلون للوصل لأشهر متسول بمصر
" أنت تعبت وغامرت ساعة علشان توصلى,أنا بقى بقالى عشرين سنة مش عارف أوصل لنفسى", هكذا خطفنى وأسرنى أبوزيد بجملة عميقة, جملة لم أكن أتوقعها قط من شاب المفروض أنه من أولاد الشوارع, ومتسول كما يقولون وعاش عمره كله فى الشارع, شعرت أننى أمام حالة خاصة جدآ لشاب فريد من نوعه.
أحسست أنى أقف أمام فيلسوف أو حكيم أو رجل تجاوز الثمانون من عمره وله من تجارب الحياة الكثير والكثير, البداية كانت منى عندما شاهدته فقلت له بتلقائية " ياه ده إحنا تعبنا وغامرنا أوى عشان نوصلك يا أبوزيد", فما كان منه سوى هذا الرد البليغ الذى أدهشنى به , عندما أجاب على سؤالى وقال لى "لو كنت تعبت وغامرت ساعة عشان توصلى ووصلتلى, فأنا غامرت خمسة وعشرين سنة ومعرفتش أوصل لنفسى".
وهكذا فإن أبوزيد, كان يستحق منى ومن فريق عملى أن نغامر بالفعل كى نصل له ونصل لحجرته الكائنة بالأدوار العليا وبالتحديد بالجناح الملكى المهجور بقصر الخديوى توفيق بمنطقة حلوان, وكما هو واضح فى الصورة أعلاه, فقد تسلقت الجدران ووقفت على الأعمدة, وحاولت قدر المستطاع أن أصل لهذا الشخص الفريد من نوعه, خاصة بعدما سمعت عنه العديد والعديد من الحكايات من أكثر من مصدر, سواء المتسولين الذين يصغرونه سنآ, أم من غيرهم.
رسالة أبوزيد لوالده "أنا مش حشرة, أنا إنسان"
رسالة أبوزيد لوالده "أنا مش حشرة, أنا إنسان". |
بدأ أبوزيد المعروف فى منطقة حلوان بأقدم متسول ومتشرد, يسرد حكايته من البداية, منذ أن شاءت الظروف أن تتزوج والدته البسيطة الفقيرة بائعة الشاى من الشاب الثرى الذى هو والده الأن, هذا الشاب الثرى الذى استغل جمالها وتزوجها عرفيآ وأنجب منها طفلآ هو أبوزيد, توفت والدة أبوزيد وهو فى سن السبع سنوات, ونجح فى الوصول إلى والده, لكن الأخير تبرء منه تمامآ.
نعم تبرء منه ولم يعترف به, بل وطرده من مسكنه بعد أن تزوج من أخرى وأنجب منها ثلاثة أطفال, هم أشقاء أبوزيد, فوجد نفسه حبيس الشارع والأرصفة والتسول, نام على الرصيف فى عز البرد, وفى الوقت الذى كان أشقاءه يرقدون فيه على الوسادات الناعمة وتحت الأغطية السميكة الدافئة, كان يتصبب عرقآ مع حرارة الصيف فى الوقت الذى كان أشقاءه ينعمون فيه بالمكيفات سواء فى سيارة والدهم أو فى منزلهم.
ورغم كل ذلك لم ينقم أبوزيد على حاله وظل متمسك بوالده, فذهب له مرة أخرى, فما كان من والده سوى أن قال لحارس العقار" لو الحشرة ده جه تاتى ارميه برة ", هكذا أخبرنى أبوزيد وهو يبكى بكاء شديد أمام عدسة كاميرا برنامج مهمة خاصة, هكذا انهار أبوزيد وسالت دموعه كالمطر وهو يردد ويقول " أنا مش حشرة, أنا إنسان ".
أبوزيد لوالده"بحب أعمل اللى يزعلك لأنك زعلتنى عمرى كله"
أبوزيد لوالده"بحب أعمل اللى يزعلك لأنك زعلتنى عمرى كله". |
وفى جملة بليغة أخرى, يؤسرنى أبوزيد, بعباراته الفطرية البليغة, ويجعل الدموع تترقرق بين عيونى, وأنا أغالبها بكل صعوبة, حيث أراد أن يوجه رسالة إلى والده, متعمدآ أن يحرجه ويضعه فى مأزق, وأن يكون سببآ فى ضيقه وحزنه وندمه, هو يريد أن يفضحه ويفضح أشقائه الثلاثة, وأن يأخذ بثأره الذى طلما شعر به سنوت طويلة من العمر.
فيقول لى "أنا بحب أزعله أوى, لأنه زعلنى عمرى كله ", فاذا بأبوزيد يناديه وينادى أشقائه ويقول لهم "شايفين أخوكوا حلو إزاى, شايفين شكله وأسنانه حلوة إزاى", وظل يردد جمل وعبارات يبكى لها الحجر الصوان, اكثر من عشرين سنة عاشها هذا الشاب وحيدآ مذلولآ مقهورأ مغلوبآ على أمره وعلى حاله.
فى الوقت الذى كان فيه والده ميسورآ غنيآ وأشقائه فى المدارس منعمين وسعداء, كان هو متشردآ ومتسولآ ويستجدى لقمة العيش من الغريب, وقعت أسنانه وسقط شعره وضعف بصره وانحنى ظهره, كان ينظر إلى الكاميرا والعدسات ويتحدث بطلاقة لم أجد لها مثيل من قبل, بكيت معه وبكت معه مصر والوطن العربى.
يغامر يوميآ بالسيرعلى الإرتفاعات من أجل الذهاب لدورة المياه
يغامر يوميآ بالسير على الإرتفاعات من أجل الوصول لدوره المياه. |
فى الوقت الذى كان فيه أشقاء أبوزيد يقضون حاجتهم فى الحمامات الفاخرة , الباردة والساخنة, كان هو يتسلق الإرتفاعات ويسير على أعمدة القصر المتهالكة, كى يعبر المسافة العرضية الخطيرة للغاية, التى تربط بين المبنى المهجور الذى يعيش فيه إلى المبنى الأخر المواجه له والذى يحوى حمامات القصر.
يوميآ وعلى مدى سنوات وسنوات, كان أبوزيد الذى ينادونه بالمتسول وبالمتشرد, يسير على الأعمدة المرتفعة, كى يقضى حاجته, لم استوعب الأمر فى البداية, وطلبت منه أن يجعلنى أشاهد بنفسى, فإذا به يقوم بالفعل بالسير على الأعمده الخشبية المتهالكة, مما جعلنى أشعر وكأننى أشاهد فيلمآ سينمائيآ من وحى خيال مؤلفه أوكاتبه.
نعم فما قام به أمامى وأمام الكاميرا, يجعلك تشعر وكأنك تشاهد فيلمآ سينمائيآ من وحى الخيال, فما أصعب ما عاشه هذا المتسول الشاب, الذى تشعر معه وكأنه قد تجاوز الستون من عمره, كنت حزين جدا من الحال الذى وصل له أبوزيد, الذى لم يرحمه والده ولا أشقائه ولا الأيام ولا حتى المجتمع, هذا المجتمع الذى ظل دومآ يوصفه ويوصمه بالمتسول والمتشرد, ويضعه فى مصاف هؤلاء من المتسولين والمتشردين وأطفال الشوارع.
دموع أبوزيد يبكى لها الحجر الصوان
كانت دموع أبوزيد أقوى بكثير من مجرد سطور تعبر عنها أو وصف يصفها أو معنى يجسدها, لم يكن منى سوى أن اقتربت منه محاولآ التخفيف عنه بأى شكل, وإذا به يقول لى جملة بليغة أخرى جعلتنى أحتار فى أمر هذا الشاب, الذى بالفعل تشعر وكأنك تحاور فيلسوفآ أو أديبآ أو كاتبآ أو كهلآ له من تجارب الحياة وخبرات السنين الكثير والكثير.
قال لى"معقول, معقول الناس كلها بتنفرنى وتقرف منى وأنت بتقرب منى, مش خايف على هدومك لتتوسخ يا أستاذ" وهنا إحتضنت أبوزيد من كل قلبى, لم أكن أتخيل أن ينطق بهذه المفردات العفوية المؤثرة التى تدغدغ القلب, تعمدت أن أحتضنه مؤكدآ له أن ذلك يشرفنى كثيرآ ويسعدنى ويشعرنى بعظيم الشرف.
لم أكن أجبر بخاطره بقدر ما كنت حريص بالفعل أن أؤكد له بأنه إنسان شريف ومواطن صالح وإبن بار, لكنه الجحود وقسوة القلوب وحظه العاثر فى أن يكون مثل هذا الأب الجاحد المستهتر والدآ له, كان أبوزيد سعيدآ جدآ من كلماتى له ولكنه لم يكن متفائلآ على الإطلاق, عرضت عليه كل المساعدات الممكنة, لكنه رفض فى عزة وشموخ.
تقدر ترجعلى عمرى اللى راح يا أستاذ
أبوزيد يبكى ويسألنى"تقدر ترجعلى عمرى اللى راح يا أستاذ". |
كان لابد أن أرحل بعد هذا الحوار الطويل جدآ, وهذه المهمة الخاصة شديدة الوطأة والدراما, لم اكن أريد أن أترك هذا الشاب على الإطلاق, شئ ما بداخلى كان يحثنى أن أبقى معه أطول فترة ممكنة من الوقت, عرضت عليه أن أتوسط له فى عمل أو حرفة أو أى شئ أو أن أصلح له ولو جزء بسيط من حياته, فما كان منه سوى بلاغته المعهودة, وعباراته الرنانة, التى مازالت فى أذنى, رغم مرور ما يقرب من عشر سنوات.
قال لى, "هتقدر ترجعلى حياتى اللى فاتت, تقدر ترجعلى عمرى اللى ضاع, تقدر ترجعلى أسنانى اللى إتكسرت, تقدر تصلح وشى اللى باظ ", فما كان منى سوى أن بكيت, واحتضنته بكل حب وإخلاص, أعترف أنى عجزت عن الرد على كل سؤال سألنى به هذا الشاب المسكين, الذى يعف لسانى أن أصفه بالمتسول, عجزت بالفعل أن أجد أى إجابه له.
وفى نفس الوقت, وجدت نفسى عاجزآ أيضآ أن أخنق مشاعرى بين ضلوعى, أو أن أكتم إحساسى بالتعاطف الكامل معه, فوجدت نفسى أنا الأخر وقد بكيت معه أمام الكاميرا, نعم, إحتضنته, وبكيت معه من كل قلبى, وبكى المصورين من خلف الكاميرا معنا, حقآ لا أبالغ, لكنها الحقيقة بالفعل, فقد كان لقاء محزن للغاية, لقاء لم ولن أنساه فى حياتى.
نهاية مأساوية وغير متوقعة تمامآ ووداعآ يا أبوزيد
نهاية مأساوية وغير متوقعة تمامآ ووداعآ يا أبوزيد. |
من الواضح أن أبوزيد قد أحبنى من قلبه, وذلك لأنه صمم أن ينزل معى إلى بهو القصر المهجور, ويودعنى على الباب, رغم علمى بأنه من المستحيل أن يهبط من مكانه العلوى فى الجناح الملكى المهجور إلا لسبب قهرى, أو عندما تهاجم الشرطة القصر, عدا ذلك فأبوزيد نادر جدآ أن تجده موجود فى ساحة القصر المهجور, أو أن تجده جالسآ مع الصبية الأخرين الذين إتخذوا من القصر مأوى لهم.
أصر أبوزيد أن يودعنى وظل يسير معى حتى باب القصر كما هو واضح فى الصورة أعلاه, وإحتضنى بشدة عند الباب وظل يبكى فى حضنى بشكل غريب, وكنت أشعر بداخلى بشئ غريب جدآ وأنا أغادر هذا المكان, كنت أشعر أننى لم ولن أرى هذا الشاب مرة أخرى, وبالفعل وبعد أسبوع واحد فقط , وفى الوقت الذى كنت أستعد فيه لزيارة أبوزيد زيارة شخصية فوجئت بخبر وفاته, نعم توفى أبوزيد.
نعم, توفى هذا الشاب البسيط الغلبان صاحب القول البليغ, والقلب الجميل, والحكمة التى وهبها الله له, توفى وكأن الله تعالى قد أثلج صدره قبل وفاته بهذا اللقاء التليفزيونى, هذا اللقاء الذى أخرج فيه كل وجع ظل حبيس بين ضلوعة طيلة السنوات العديدة السابقة, بسبب والده الجاحد, الذى كان سببآ رئيسيآ فى كل قهر حدث له.
الخاتمة
وهكذا فإن الله تعالى قد قدر له هذه النهاية كى يرحمه من عذاب الفكر والهم والشجن والوحدة والعزلة التى عاشها أبوزيد, خاصة كلمة متسول أو المتسول, تلك الكلمة التى كان يحزن منها أشد الحزن, ويشعر معها بكل الأسى, وكانت وفاته فى حد ذاتها أمرآ غريبآ جدآ, فرغم مهارته الفائقة فى عبور الأعمدة الخشبية, التى كان يمر عليها يوميآ لأداء حاجته والذهاب إلى دورة المياه, إلا أنه قد سقط من عليها, نعم, إختل توازنه, وسقط من ارتفاع خمسة عشرة مترآ, واصطدمت جبهته بغطاء بالوعة صرف صحى, كانت البالوعة مكشوفة الغطاء, اصطدمت رأس أبوزيد بالغطاء وتوفى على حافة بالوعة الصرف, فى مشهد تقشعر له الأبدان, الأغرب من كل ذلك أننى ومنذ أن قمت بإذاعة حلقة أبوزيد على التليفزيون, فوجئت بالعديد من رجال الأعمال وأصحاب القلوب الرحيمة, بل وبعض السيدات العرب والمصريات, انهالت التليفونات والرسائل, الكل يريد مساندة ومساعدة أبوزيد, الكل يريد التخفيف عن أبوزيد, لم يمر سوى أسبوع, وأعلنت على الهواء مباشرة خبر وفاة أبوزيد, بكت مصر كلها على هذا الشاب, ولم يصدق الناس أن نفس هذا الشاب الذى شاهدوا مأساته الأسبوع الماضى, هو نفسه الشاب الذى توفى فى الأسبوع الذى أعقبه مباشرة, توجهت بالشكر لكل من حاول أن يساعد أبوزيد أو أن يقدم له يد العون, وعلمت بداخلى أن الله تعالى ملك الملوك هو الذى أراد أن يحنوا على أبوزيد, وليس البشر, هذه كانت قصة المتسول الذى غامرت ساعة واحدة فقط كى أصل له فى الجناح الملكى المهجور الذى كان يقيم فيه لمدة سنوات طويلة, وهو غامر خمسة وعشرون عامآ ولم يصل إلى نفسه.